آخر المشاركات
السبت، 24 أبريل 2021

مفهوم التخييل عند الجرجاني


 مفهوم التخييل عند الجرجاني

سفير السلام د. زعل الغزالي
ويوضح عبد القاهر موقفه من قضية الصدق والكذب في الشعر ، في أثناء تعليقه على قول البحتري ..
كلفتمونا حدود منطقكم
والشعر يغني عن صدقه كذبه
يقول : ((أراد كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق ، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به ، ويلجئ إلى موجبه ، مع أن الشعر يكفي فيه التخييل ، والذهاب بالنفس إلى ما ترتاح إليه من التعليل، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد ، وإياه عمد، إذ يبعد أن يريد بالكذب إعطاء الممدوح حظاً من الفضل والسؤدد ليس له ، ويبلغه بالصفة حظاً من التعظيم يجاوز به من الإكثار محله؛ لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية ، والقوانين العقلية ، وإنما يكذب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما وصف به ، والكشف عن قدره وخسته، ورفعته أو ضعته، ومعرفة محله ومرتبته ..
وكذلك قول من قال : ((خير الشعر أكذبه)) فهذا مراده لأن الشعر لا يكتسب من حيث هو شعر فضلاً ونقصاً وانحطاطاً وارتفاعاً بأن ينحل الوضيع من الرفعة ما هو منه عارٍ ، أو يصف الشريف بنقص وعارٍ.
ثم يتطرّق عبد القاهر إلى القول المعارض وهو ((خير الشعر أصدقه)) ..
كما قال حسان:
وإنّ أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
ويورد عبد القاهر حجة أصحاب الرأي الأول الذين تعلقوا بالكذب ؛ فهؤلاء ذهبوا إلى ((أن الصنعة إنما يُمدُّ باعُها ، ويُنشر شعاعها ، ويتسع ميدانها ، وتتفرع أفنانها ، حيث يُعتمد الاتساع والتخييل، وتُدّعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتمثيل ، وحيث يُقصد التلطّف والتأويل ، ويُذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذم ، والوصف والبث، والفخر والمباهاة ، وسائر المقاصد والأغراض، وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يُبدع ويَزيد ويبدئ في اختراع الصور ويُعيد ، ويصادف مضطربا كيف شاء واسعاً ، ومدداً من المعاني متتابعاً ، ويكون كالمغترف من غدير لا ينقطع والمستخرج من معدن لا ينتهي .. وأما القبيل الآخر ، فهو فيه كالمقصور المُدانى قيدُه ، والذي لا تتسع كيف شاء يده وأيدُه؛ ثم هو في الأكثر يورد على السامعين معاني معروفة ، وصوراً مشهورة ، ويتصرف في أصول هي وإن كانت شريفة فإنها كالجواهر تحفظ أعدادها ، ولا يُرجى ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تَنْمى ولا تزيد، ولا تربح ولا تفيد ، وكالحسناء العقيم ، والشجرة الرائعة لا تمتع بجنى كريم..
أما أصحاب الرأي الثاني الذين تعلقوا بالصدق فرأوا أن ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق والتصحيح ، واعتماد ما يجري من العقل على أصح صحيح ، أحبُّ إليهم وآثر عندهم ؛ إذ أن ثمره أحلى، وأثره أبقى ، وفائدته أظهر ، وحاصله أكثر ..
ويرى عبد القاهر أن العقل يفضل الصدق ويقدمه ، ويفخم قدره ويعظمه ؛ وما كان العقل ناصره والتحقيق شاهده ، فهو العزيز جانبه ، والمنيع مناكبه ... هذا ، ومن سلّم أن المعاني المعرقة في الصدق، المستخرجة من معدن الحق في حكم الجامد الذي لاينمى، والمحصول الذي لا يزيد ؟ .. وإن أردت أن تعرف بطلان هذه الدعوى فانظر إلى قول أبي فراس:
وكنا كالسهام إذا أصابـَت
مراميها فراميها أصابـا
ألست تراه عقلياً عريقاً في نسبه ، معترفاً بقوة سببه ، وهو على ذلك من فرائد أبي فراس التي هو أبو عذرها ، والسابق إلى إثارة سرها ..
ولكن سرعان ما نراه يدافع عن أصحاب الرأي القائل: إن خير الشعر أكذبه ؛ فهم لم يقولوا هذا القول وهم يريدون كلاماً ساذجاً يكذب فيه صاحبه ويفرط نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة ، ويقول للبائس المسكين : إنك أمير العراقين ، ولكن ما فيه صنعة يُتعمَّل لها ، وتدقيق في المعاني يحتاج إلى فطنة لطيفة ، وفهم ثاقب ، وغوص شديد ..
وهذا ما لم نكن ننتظره من عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة وصاحب دلائل إعجاز القرآن الكريم ؛ لأن الكذب يظل مرفوضاً وغير مقبول مهما تُصنّع له وتُعمّل.
.....................
يتبع
  • تعليقات بلوجر
  • تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات :

Item Reviewed: مفهوم التخييل عند الجرجاني Rating: 5 Reviewed By: وليد النصيري